أيها الوعي... كيف ومتى تعود؟ - تايم تايمز
الإثنين 16 سبتمبر 2024




المقالات بأقلامهم › أيها الوعي... كيف ومتى تعود؟
أيها الوعي... كيف ومتى تعود؟
04-06-2014 04:56


لا يمكن أن يختلف اثنان على تدني الوعي العام لدى معظم الشعوب العربية والإسلامية. أقصد بذلك الوعي بالمسؤولية والوعي بالمستويات الدنيا المتصلة بالذوق العام والوعي باحترام الممتلكات العامة والخاصة وحق الجار والسائق وعابر الطريق. الوعي أيضاً غائب تماماً في ما يتعلق بفهم هذه الشعوب وإدراكها لأنظمة الحكم وللسياسة وتعقيداتها في شكل عام. ولا يمكن بالطبع إغفال غياب الوعي في التجارة والبناء والتخطيط، وسأعود إلى بعض هذه النقاط ببعض الشرح، حتى في الرياضة ذات الشعبية الجارفة، نجد أن الوعي أقل مما نطمح إليه، وإن كان الرياضيون نسبياً أكثر وعياً من غيرهم في ما يتعلق بأساسيات اللعب والتنافس، ربما لخضوع الرياضة لقوانين عالمية لا تقبل الجدل. التعليم وأهميته في بناء الأمم لا ندركه كما يجب، وبسبب جهلنا أو تجاهلنا لهذا الدور، خرج من معلمينا ومؤلفي المناهج لدينا من خان الأمانة وغلّب المصالح الحزبية الخارجية على مصالح الوطن وأهله، من دون أن ندرك ذلك في وقته. الحقيقة أن الجهل هو الغالب على الكثير من سلوكياتنا وتحليلاتنا وتقويمنا لما يدور حولنا. هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها أو الدوران حولها، بل مواجهتها.
اسمحوا لي بالدخول في بعض التفاصيل. في المملكة وعلى سبيل المثال وليس الحصر، كنت أظن أن مشروع ساهر سيتحول إلى خسارة فادحة للمستثمرين الذين نفذوه بالتعاون مع وزارة الداخلية. لو سألني من هؤلاء المستثمرين أحد عن قوة ومتانة الافتراضات التي بنيت عليها دراسة الجدوى الاقتصادية، لقلت له إنها تحمل الكثير من المخاطر وقد يفشل المشروع فشلاً ذريعاً. أستند في هذا الرأي إلى قاعدة بسيطة، وهي أن السائقين حتماً سيلتزمون بالتعليمات الخاصة بالسرعة والتقاطعات من الشهر الأول، ليتفادوا دفع الغرامات المالية، ما يعني في النهاية أن المشروع لن يحقق الدخل المأمول الذي يغطي تكاليف التأسيس الباهظة. ظننت أن الوعي في موضوع التجاوزات والسرعة سيرتفع، ذلك أن ارتكاب المخالفات مجرد تهور، فهي ليست غذاء أو شراباً، حتى نقول إن السائق لن يستغني عنها. جميعنا يعلم بالطبع أن تحليلي أو «توصيتي» اليوم خطأ، وأن المستثمرين في المشروع تغلبوا علي في حدة رؤيتهم وفهمهم للسلوك العام. خرج «ساهر» إلى حيز التطبيق، وبدلاً من «مقاطعته» إلى حد الإفلاس من خلال الانضباط، أصبح الكثيرون يتندرون منه ويتحدونه، بل إن بعض المتهورين وإلى يومنا هذا يحطمون الكاميرات ويشوهونها بالطلاء، ولا يزال «ساهر» يعمل ويدر الأرباح. بعض المثقفين كتب عن «ساهر» بسلبية مستغربة وكأن السرعة والانفلات والتجاوزات غير القانونية هي القاعدة، والانضباط هو الشذوذ.
وعلى صعيد آخر وخارج منطقتنا في الخليج، حدثت كما تعلمون تلك التمردات أو كما يحلو للبعض تسميتها بـ«الثورات» في بعض الدول العربية، ولم تنتج منها إلا الفوضى والهلاك. سبب تلك الفوضى في ليبيا وتونس وغيرهما هو غياب الوعي تماماً عن قواعد اللعبة السياسية التي ظنت تلك الشعوب أنه بالإمكان نسخها هكذا من ديموقراطيات عريقة حول العالم. لم يكتشفوا ارتباط الوعي بفهم وإدراك هذه اللعبة إلا بعد أن عمت الفوضى وضاع الأمن.
للإنصاف لا بد من استثناء إمارة دبي من الكثير مما تناولته حتى الآن من أمثلة حول الفوضى العارمة والجهل والأنانية في بلاد العرب. في دبي لا يمكن إلا أن تلحظ النظام والنظافة والرقابة مما يقودك إلى الشعور بالانضباط كزائر، وبالتالي القناعة بأن الوعي والشعور بالمسؤولية هناك يتمتعان بمستويات متقدمة. سلوك الناس هناك مختلف كثيراً عن غيره، سواء في بقية دول الخليج أم في عموم الدول العربية، لكن ما السبب يا ترى؟ شعب الإمارات لم يكن إسكندنافياً في أصوله بل بدوياً صحراوياً، وإلى عهد قريب لم توجد لديهم مدن بالمعنى الحقيقي للمفردة. الواضح أن هذه الإمارة ومنذ بداية نهضتها في نهاية الثمانينات القريبة الماضية قررت بوعيها ورؤيتها واستشعار قادتها بالمسؤولية أن تبدأ من النقطة التي توقفت عندها معظم دول العالم المتقدم. خططوا الطرق بهندسة كاليفورنيا وطوكيو، ولم يحاولوا الاعتماد على عقول «عرب الشمال» وغيرهم أو إعادة اختراع العجلة كما يفعل مخططو الأحياء السكنية في المملكة في الفترة ذاتها. حي الملك فهد شمال الرياض أنموذجاً وشاهداً على كلامي، ذلك أنني لم أر حياً سكنياً أسوأ منه تخطيطاً. لم يكن في دبي رئيس للبلدية تفاجأ بنمو عدد السكان كما أفشى به الأمين السابق عبدالله النعيم، الذي قال في لقاء تلفزيوني حديث، وبعد أن شعر بالتململ من أسئلة المذيع: «يا خي وش درانا أن الرياض بيصير فيها 6 ملايين نسمة ومليونان سيارة». أوردت هذا المثال على إيلامه لأربط بين الوعي والتخطيط السليم. غياب التخطيط المتقدم المستشرف للمستقبل مدعاة للتململ والضجر واللجوء للفوضى. ها نحن اليوم وبسبب غياب هذا الوعي الذي نتحدث عنه نعاني من أعمال إعادة هيكلة الطرق، وللتو نبدأ بتشييد «المترو» الذي كان يفترض أن يكون ضمن الـ«ماستر بلان» في وقت ذلك الأمين. شرطة إمارة دبي هي الأخرى حازمة، ولا تعير الوساطة أو الوجاهة أي اهتمام. عندما يتم تغريمك هناك لأي سبب، عليك الامتثال وعدم التكرار وإلا. الشرطة هناك تغرم ليس فقط السائق المتهور، بل وحتى الفرد الذي قد يرمي سيجارة أو علبة مشروب غازية أو محارم ورقية في مكان غير مخصص للنفايات. تخطيط المسارات واحترام قواعد السير والانتظار في الطابور ومنح الأفضلية لمن هم في الدوار أصبحت أموراً بديهية في أي مكان في دبي، كل هذه الأمور متصلة بالوعي وتفرعاته.
الأمر الغريب بل والمثير الذي يستحق التوقف عنده، أن الأفراد الزائرين لهذه المدينة من أماكن أخرى تغلب عليها الفوضى سرعان ما يتحولون هناك إلى منضبطين. سرعان ما يتمسكن ذلك المتهور الأناني العبيط في بلاده وبيئته، ويتحول في دبي إلى شخص يتمتع بالذوق والرقي ويفشي احترامه للغير ويبتسم كثيراً. هل خوفه من القانون في دبي أو لندن أو طوكيو أو لوس آنجليس عندما يذهب إليها هو الذي يدفعه إلى الظهور كشخص مسؤول وواع ومحترم؟ في رأيي نعم، وأراهن على ذلك في كل الأوقات. وضع القوانين العملية المناسبة والخوف من الوقوع في الخطأ عملية تربوية تهذيبية في كل زمان ومكان. لو قررت شرطة لوس آنجليس أو نيويورك أو حتى دبي واستوكهولم التوقف عن المراقبة وغابت سياراتهم وتعطلت كاميراتهم، لخرجت تلك الشعوب في مشاهد أسوأ ربما مما شاهدناه في بنغازي أو طرابلس أو القاهرة، وقد حدث ذلك بالفعل في نيويورك عندما انطفأت الكهرباء تماماً.
الذي يمكن أن نستنتجه بعد هذه العجالة إذاً أن الوعي لا يتوافر إلا مع السلطة والحزم والمساءلة ووجود دولة القانون. الوعي والانضباط ليس فطرة نولد عليها، بل نتيجة لبيئة حاضنة لقوانين واضحة وخطط سليمة وتطبيق صارم لهذه القوانين ومتابعة دقيقة لهذه الخطط من دون مداهنة أو وساطة. هذه العوامل عندما تتوافر في البيئة، فسيلجأ الفرد إلى التعامل معها بأدواتها هي وليس بأنانيته هو. مبدأ المناشدات والتوسل لم يعد مجدياً بعد اليوم. كتابة المقالات وخطب الوعاظ وغزارة ما يسمى بـ«الدروس» بعد الصلاة لم تجد نفعاً على مدى العقود الأربعة الماضية، بل إن معظمها أتى بنتائج عكسية وخرجت من بيننا مجموعات شاذة لجأت في النهاية إلى العنف والسعي نحو تدمير كل المكتسبات اعتقاداً منها أن ما تقوم به هو الصواب والحق في غياب البديل الذي نتحدث عنه هنا. تمرس الشعوب الغربية واليابان وكوريا على الديموقراطية واحترام قواعدها ودساتيرها خوفاً من ارتكاب ما يمكن أن يوصف بأنه «ضد القانون» هما اللذان يجعلانهم يقبلون بنتائج تصويتهم ويذعنون لها. المعارض منهم هناك لن يجد أمامه إلا حلاً واحداً وهو انتظار انتهاء فترة هذا الرئيس أو العضو في البرلمان لعل وعسى أن يتم انتخاب من هو أفضل منه. يستثنى من ذلك بالطبع إقدام المسؤول على أعمال كبيرة تأخذ صفة الخيانة العظمى. هنا يتم إبعاده ومحاكمته بالأدوات الدستورية والقانونية ذاتها التي أتت به. المواطن هناك لن يغير الوضع بيديه أو يتندر ويغضب في كل مرة يستيقظ بعد حلماً وردياً أو استماعه لخزعبلات وأوهام من شيخ مؤدلج أو قارئة كف أو خبير أبراج.
الخلاصة بسيطة أعزائي القراء. إذا أردنا رفع الوعي في بلادنا، فعلينا وضع الأنظمة وتطويرها وتطبيقها بواسطة المؤهلين والمدربين لذلك بكل حزم وطوال العام، وليس لفترات قصيرة محددة. لو فعلنا ذلك سنرتقي في سلوكياتنا وسنستمتع في أوطاننا ونهزم متطرفينا ونحقق الكثير من التنمية التي نطمح إليها. ثم أننا سنكتشف في ما بعد الهدر المالي الكبير الذي كنا ننفقه في صيانة الطرق ونظافة المدن اللتين تسبب فيهما غياب الشعور بالمسؤولية الجماعية وتطبيق العقوبات.
متى نفرش لك الطرقات بالورد أيها الوعي الغائب؟

بقلم الكاتب / فهد الدغيثر

تعليقات تعليقات : 0 | إهداء إهداء : 0 | زيارات زيارات : 952 | أضيف في : 04-06-2014 04:56 | شارك :


خدمات المحتوى
  • مواقع النشر :
  • أضف محتوى في Digg
  • أضف محتوى في del.icio.us
  • أضف محتوى في StumbleUpon
  • أضف محتوى في Google


فهد الدغيثر
فهد الدغيثر

تقييم
5.50/10 (2 صوت)

install tracking codes
للتواصل من خلال الواتساب 0506662966 ـــ 0569616606 البريد الالكتروني للصحيفة arartimes@arartimes.com ص ب 1567 الرمز البريدي 91441