عرعر تايمز - واس :
أقام النادي الأدبي الثقافي بالحدود الشمالية أمسية أدبية بعنوان : في خطاب الرحلة لسعادة الدكتور/ محمد بن راضي الشريف عميد عمادة شؤون المكتبات بجامعة الحدود الشمالية حيث بدأت المحاضرة بمقدمة رائعة من مدير الأمسية الدكتور سعيد الأيوبي عن فارس الأمسية وموضوعها ثم بدأ فارس الأمسية المحاضرة التي تناولت خطاب الرحلة المنجز لرحلات مترجمة إلى العربية لأوربيين زاروا المنطقة الشمالية من الجزيرة العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين، من أشهرهم كارلو جوارماني وبلجريف وشارل هوبر وآن بلنت ويوليوس اويتنج وتشارلز داوتي وشارل هوبير والبارون إدوارد نولده ولويز موزيل، حيث تميّزت هذه الرحلات بميزات عدّة من أهمّها المستوى الثقافي العالي لأصحاب هذه الرحلات، كذلك نظرة هؤلاء الرحالة إلى هذه المنطقة بإنسانها ومكانها بعين الغريب الذي قد تدهشه التفاصيل الصغيرة المهمة التي قد لا يتوقف عندها الرحالة المغربي أو الشامي الذي تجمعه بالإنسان والمكان أشياء كثيرة حيث عاداته ودينه ولغته وطبيعة أرضه.
كذلك أن هذه الرحلات متقاربة زمنيا وتصف نفس الأماكن بل ونفس الأشخاص أحيانا ويحيل بعضهم إلى بعض خاصة في وصف الأماكن أو الملاحظات على الأشخاص البارزين في المنطقة.
قد يكون هناك من يتحفظ على دراسة الخطاب الرحلي المترجم بحجة أنه انتقل إلى لغة غير اللغة التي كتبه بها من قام بالرحلة، ويرد ذلك أن هذا الخطاب كتب بلغة تعتمد الوضوح والمباشرة، إذ تبتعد عن اللغة المغرقة في الشعرية التي قد يصعب ترجمتها، أو قد يتأثر هذا الخطاب جراء الترجمة، وقد تمت مقارنة أجزاء من الرحلات موضوع دراستنا بترجمات مختلفة فاتضح أن الترجمة متقاربة إلى حد كبير.
يعد تحديد خطاب الرحلة من حيث الجنس من الصعوبة بمكان فهو كائن زرافي تعتوره عدة فنون، ويسير في أنساق عدة مختلفة المهايع والمشارب، وتَدّعي نسبته جهات كثر قد يُثبت انتمائه لها ملامح بارزة بينما يحتاج إثبات نسبته لعالم الأدب أبحاث جينية دقيقة تؤكد هذا الانتساب الذي قد تكون وشيجته خفية لا يدركها الكثيرون، ولا يعزب عن أذهاننا الاختلاف حول تحديد كنه الأدبية ومستوياتها التي يبنى عليها تحديد الأجناس العريقة كالشعر والرواية.
فخطاب الرحلة متنوع المضامين متعدد الأساليب تتنازعه علوم شتى تتداخل معه وتتواشج، إذ له صلات بالجغرافيا والتاريخ وعلم الإنسان وعلم الأرض والاقتصاد والسياسة.
هذا التنوع جعل خطاب الرحلة جنسا أدبيا مراوغا ، إلا أن هذا التنوع يفضي إلى ميزة تجعل هذا الجنس أكثر ثراء وأرحب فضاء.
" انتساب الرحلة إلى العلوم الإنسانية مسألة معقدة ، لأن الرحلة هي رحلات بسبب تيماتها وأصناف رحّالاتها ... تحولت من المعيش المادي الحلمي الاستيهامي إلى نص تخيّلي أساسه في الحالتين التجربة الخارجية والباطنية.
هذا التنوع يجعل الرحلة عصيّة عن أي تأطير أولي، لكن النظر إليها من زاوية أخرى ، وتخصيصا الجانب البنيوي ، يوضح أن العناصر المشتركة بين كل هذه الأنواع / الأشكال تظل واحدة في تعددها، تتعدد أسلوبيا ، وتتخذ أوضاعا شتى في السياقات الموضوعة لها ، لهذا لا تخلو رحلة من سرد ووصف وتعليق من (الأنا) المحركة لكل هذه المشاهدات والمرويات والتخيّلات والأحلام، مما يجعل نعت الرحلة : تسمية مفتوحة على احتمالات التنويع.
ورغم ذلك ، فإن البحث عن تحديد دقيق لمفهوم الرحلة مأزق لا بد منه لطرح الإشكال بطريقة جذرية. فالتراكم لم يُفرز إلا تنوعا في الأشكال والتشكيل الفني.
فبالرغم أن خطاب الرحلة كان مادة أصيلة لبحوث ودراسات في علوم عدة إلا أن الجانب الأدبي ما زال لم ينل حقه من البحث والدراسة، ولم يجل بشكل يبرز علاقته الوطيدة بعالم الأدب الذي هو ألصق به وأليق من فنون أدبية مقلِّدة تتوسل إلى الأدب بغطاء ظاهري عماده جمالية مزيفة قد تكون هابطة لا تعدو اجترارا لنماذج سابقة أو حشد لقشور وزركشات توهم بأدبية فارغة إنّ ما أنجز يظل – وإن كثر – يسيرا من حيث كمُّه وكيفُه ، ويظل في أغلب الأحيان متناولا لمحتوى الخطاب الرحلي باعتباره وثيقة تُوظف في مجالات شتى.
فالخطاب الرحلي يملك من المقومات والخصائص ما يجعله منفتحا على إمكانات متعددة في الكتابة والقراءة.
وإذا كانت الأدبية تنص على المتعة والفائدة ، فالخطاب الرحلي هو خير من يحققهما في آن.
أولى هذه الصور التي تستحق الرصد والتبين صورة امرأة تحدّث عنها أكثر من رحالة، إذ نجد آن بلنت الرحالة الإنجليزية التي زارت حائل انطلاقا من الشام ومرورا بالجوف عام 1878م تذكر أن محمد بن رشيد أمير حائل يسألها عنها، ونجد ذات المرأة في أكثر من موضع عند الرحالة ألويز موزيل المعروف بـ ( موسى الرويلي) الذي تجول في بادية الشمال سنة 1908 م وما بعدها.
هذا الوصف الذي يجلّي شخصية هذه المرأة العربية من خلال سرد الأحداث التي مرت بها، ورصد التصرفات لهذه المرأة ذات الشخصية المؤثرة التي تجبر القارئ على تغيير الصورة النمطية للمرأة العربية البدوية وتجعله يقف بإكبار أمام فاعليتها وقدرتها على إدارة حياتها، إذ أصبحت رقما صعبا لا يمكن تجاوزه في طبقة تمثل رأس الهرم القبلي الاجتماعي في الجزيرة العربية.
يقول موزيل واصفا تجاذبه لأطراف الحديث أثناء زيارة النوري بن شعلان شيخ الرولة له في خيمته " وبعد حديث استغرق منّا بعض الوقت راح نوّاف يتباهى ويطنب في مآثر جده هزاع ومضى في حديثه وقال " ولكن ابن أخيه سطام زاد عليه. فقد تزوّج بتركيّة من آل مهيد ، بعد أن وقع في غرامها ، وكان آل مهيد في خصومة شديدة مع الرولة، وقد صادف أن خرج سطام ذات مرة على رأس مقاتلينا لغزو الفدعان، وتمكن من رجالهم حتى ردهم إلى خيامهم، وهناك رأى لأول مرة تركية ذات البشرة البيضاء، وهي تستثير حمية أبناء قبيلتها عارية الصدر محلولة الشعر، ليبدي هؤلاء كل ما لديهم من مقاومة. وكان النصر حليف سطام ذلك اليوم، إذ رد الفدعان إلى ما وراء مضاربهم، ولكنه نهى جماعته، مع ذلك عن هدم بيوت الشعر أو النهب.
واكتفى بأن قال" أخبري أباك والمحاربين يا تركية أن سطاما يَرِدُ إليكم بيوتَكم، ثم غادر منازل العشيرة"
ولقد أعجبت تركية بتلك الشهامة، حتى إنها أعرضت عن الزواج من أي شخص آخر سوى سطام، ثم أقنعت أباها بالقبول به زوجا لها. ولقد عرفتها وعرفت ولديها خالدا وممدوحا.
وبعد هزاع تولى سطام الزعامة وصار الآمر على كل عشائر ضنا مسلم، واستمر أمره فيهم خمسا وعشرين سنة، وكان يعتمد على زوجته تركية اعتمادا كبيرا، ويقدرها ويحرص على بقائها دائما بقربه .."
وعندما نقرأ المنجز الرحلي للرحالة الألماني يوليوس اويتنج، الذي زار الشمال بدءا من قرية كاف التي مكث بها أياما ثم توجه إلى الجوف ومنها إلى حائل فتيماء فتبوك فالحجر والعلا وأخيرا الوجه على ساحل البحر الأحمر حيث سافر إلى مصر، نجد التقاطات تجعل من خطاب رحلته منجزا يؤهله لأن يدرس باحتفاء.
من التقاطاته الجميلة واصفا عادة للناس في كاف "ومما كان يزعجني عادة الناس أن يصرخوا بصوت عال عندما كنت أطلب منهم تكرار جملة لم أفهمها، أو لم أفهمها بشكل صحيح، ظنا منهم أن التكرار بصوت عال يجعلني أفهم أكثر".
ويصف اوتنج تشكيلات الأرض ونباتها فيقول:" ... في الأرض الرملية التي تتناثر فيها عروق الكوارتز ينمو فيما عدا الكلح العشب الدائم الخضرة، نبات آخر يدعى رِبْلة يأكله البدو أيضا، وكان هناك علاوة على ذلك كمية من الكمأة ، وتكثر هذه الأكلة الشهية في الصحراء، مع بداية الربيع تدفع برأسها الرمل نحو الأعلى، وبذلك تكشف عن مكان وجودها، كانت عين نومان المدرّبة على كشف الكمأة تلمحها من بعيد، وبعد حين على وجه السرعة مؤونة ضخمة منها وأما لون درنها من الخارج فهو بني فاتح مائل إلى الحمرة، وهي متشققة مثل القرفة المدقوقة، وأما كتلتها فهي بيضاء وذات طعم لذيذ...
وفي ذات الطريق عند العودة من تبوك يصف اوتنج مستنقعا مائيا جفت مياهه ، يقول:" فالبحيرة التي كانت قبل 12 يوما حوالي مائة خطوة مربعة وعمق نصف متر جفت بالكامل وتشققت القشرة الطينية على الأرضية والتفّت حول نفسها مشكّلة قطعا متناثرة مثل نعول أحذية عتيقة في كل مكان ...
هذا المنظر لمآل المستقع المائي الذي رصده أوتنج واجتهد في ايصال صورته إلى القارئ من خلال محاكاته وتشبيهه بشيء مألوف لدى عامة الناس في كل مكان وهو الحذاء العتيق المتكور على نفسه.
وهناك من صيغ الخطاب ما يعتمد الرحالة فيه على اللغة الدقيقة الواصفة إذ ليس ثمة تشبيه، مثاله وصف أوتنج منظرا في الصحراء في الطريق إلى تبوك، والتركيز على وصف شخص لفت انتباهه في ذلك المنظر، إذ يقول: "ظهرت للعيان من بعيد بعض النقاط السوداء إنهم عرب مع بغال ؟ وغنم، وهم مزائدة من بني عطية بينهم رجل أعمى في وجهه مرض مريع سبب له تشويها خبيثا، لكنه رغم ذلك كان يدخن نشوانا غليونا من فمه المتآكل..
هذا التلفيظ يضعنا أمام ترهين للرحلة بوصف لغوي دقيق للأشياء يجعلنا أمام خطاب مغاير لخطاب لا يحفل بمثل هذه اللغة الواصفة.
وقد انتقد موزيل مرافقيه بطريقة لمّاحة تؤكد ما نذهب إليه من شأن تجاوز خطاب الرحلة الخطاب العادي، إذ يقول:" ما إن طلع الفجر حتى أيقظني طارش الذي كان قد نصب نفسه بالقرب من رأسي، ومضى يسعل ويئن ويتأوّه ويلقي كل ما لديه من طفيليات فوقي فيما يتلو القراءات في صلاة الفجر، وليت الأمر اقتصر على الصلاة وحسب! إذ كنت قد وجهته مع مزعل إلى تسريح الجمال للرعي ولكن طارش انشغل بالصلاة، بينما غاب مزعل لأداء ضرورة. فقمت عندئذ بتسريح الجمال بنفسي، أما تومان فقد أوقد نارا وصبّ ماء في إبريق القهوة وراح يطحن حبات القهوة المحمّصة، ولمّا بدأ الإبريق يرسل البخار الحار ورائحة القهوة تنتشر، أنهى طارش صلاته وقضى مزعل حاجته. وبعد تناول الفطور كان الكسل قد استولى على الرجلين ولم يلتفتا إلى تحميل المتاع، فاضطررت أنا وتومان للقيام بكل الأشغال اللازمة".
تتأتى دراسة ” خطاب ” أدب الرحلات من خلال تناول مادة هذه المدونات بأدوات عدة تتيحها المناهج النقدية المعاصرة ، وهي أدوات تحلل المادة اللغوية ، وتكشف من خلال هذا التحليل الكثير من المعطيات : الشخصية للرحالة ، والأسلوبية في خصائص أسلوب منشئها ، والسردية في عناصر وفنيات الحكايات الواردة فيها، ودلالات ذلك الاجتماعية والثقافية والإثنوجرافية . أي أنه يمكن عبر التحليل العلمي بآليات النقد الحداثي من استنطاق نص الرحلة ، ليبوح بالكثير أدبيا وثقافيا واجتماعيا وفكريا ، فيكون النص هو المصدر والمرجع ، وهذا يكمل عمل الجغرافي والإثنوجرافي وباحث علم الاجتماع ، فهؤلاء يلجون النص بآليات مستقاة من المناهج العلمية والمعرفية في دوائر تخصصاتهم، وهو نفس عمل الناقد الأدبي الذي يفعّل أدوات مناهجه ؛ أملا في استكمال جهود هؤلاء من المعطيات اللغوية والأدبية في النص، ورغبة في أن يكون أدب الرحلة جزءا من المصادر الأدبية التي تكشف طبيعة الأسلوب في عصرها، وأنماط السرد فيه .
وهناك تناولات عدة لكتب أدب الرحلات تعتمد على المقارنة بينها؛ طريقة السرد، والأجناس الأدبية التي تتقاطع فيها مثل السيرة والتراجم والتاريخ والجغرافيا والسجل الاجتماعي والحكي والخبر والشعر والرسالة واليوميات ، أي يقارن الباحث بين نصوص أدب الرحلات من خلال هذه التقاطعات ، وهذا منهج مهم في إيضاح تفرد كل نص عن غيره ، إلا أن التناول الرأسي الذي يدرس الكتاب بوصفه وحدة بنيوية ونصية وأسلوبية ، يعطي المزيد من الأبعاد الفنية والرؤيوية المتأتية من التعامل مع الكتاب بوصفه وحدة كلية ، ليست برؤى جزئية.
وهذا ينقلنا من مفهوم : أن النص الرحلي مجرد نص يجمع التسجيلات الوصفية والحكائية والمعلوماتية لينقله إلى ” نص ” أدبي يحقق إدراكا للعالم من منظور السارد / المنشئ وهو إدراك لا يدرس من خلال تجزيء النص إلى معلومات وسرديات ، بل صهره في بوتقة واحدة تشمل كل هذا ، ليكون معبرا إلى دراسة كيفية تصور السارد وإدراكه لتجربته المعيشة ، ومعرفة المزيد عن العصر والمجتمع الذي كان يعيش فيه.
وبعد انتهاء المحاضرة جاء دور المداخلات التي اثرت المحاضرة وفي الختام تم تكريم فارس الامسية ومديرها الدكتور سعيد الايوبي شارك في التكريم د.صغير العنزي رئيس قسم اللغة العربية .